الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي المدآئن حَاشِرِينَ} يعني الشرط ليجمعوا السحرة وقال لهم: إن هؤلاء {لَشِرْذِمَةٌ} عصبة، وشرذمة كل شيء بقيّته القليلة، ومنه قول الراجز:
قال ابن مسعود: كان هؤلاء الشرذمة ستّمائة وسبعون ألفًا.وأخبرنا أبو بكر الخرمي قال: أخبرنا أبو حامد الأعمش قال: حدّثنا أبو جعفر محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي قال: حدّثنا يحيى بن آدم قال: حدّثنا إسحاق عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون الأودي في هذه الآية قال: كان أصحاب موسى ستّمائة ألف.{وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ} يعني أعداء، لمخالفتهم ديننا وقتلهم أبكارنا وذهابهم بأموالنا التي استعاروها، وخروجهم من أرضنا بغير اذن منّا.{وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} قرأ النخعي والأسود بن يزيد وعبيد بن عمر وسائر قرّاء الكوفة وابن عامر والضحاك حاذرون بالألف وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس واختيار أبي عبيد، وقرأ الآخرون حذرون بغير ألف وهما لغتان.وقال قوم: حاذرون: مؤدّون مقرّون، شاكون في السلاح، ذوو أرادة قوّة وكراع وحذرون: فَرِقون متيقظون، وقال الفرّاء: كأن الحاذر الذي يحذرك، والحذِر المخلوق حذر ألاّ يلقاه إلاّ حذرًا، والحذر اجتنابُ الشيء خوفًا منه.وقرأ شميط بن عجلان: حادرون بالدال غير معجمة، قال الفرّاء: يعني عظامًا من كثرة الأسلحة، ومنه قيل للعين العظيمة: حدرة وللمتورّم: حادر. قال امرؤ القيس: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ} قال مجاهد: سمّاها كنوزًا لأنها لم تنفق في طاعة الله سبحانه {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} ومجلس حسن {كَذَلِكَ} كما وصفنا {وَأَوْرَثْنَاهَا} بهلاكهم {بني إِسْرَائِيلَ فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ} فلحقوهم في وقت إشراق الشمس وهو إضاءتها {فَلَمَّا تَرَاءَى الجمعان} أي تقابلا بحيث يرى كل فريق منهما صاحبه، وكسر يحيى والأعمش وحمزة وخلف الراء تراءى الباقون بالفتح.{قَالَ أَصْحَابُ موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} لملحقون، وقرأ الأعرج وعبيد بن عمير لمدّركون بتشديد الدال والاختيار قراءة العامة كقوله: {حتى إِذَآ أَدْرَكَهُ الغرق} [يونس: 90].{قَالَ} موسى ثقة بوعد اللّه {كَلاَّ} لا يدركونكم {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} طريق النجاة {فَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر}.أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين الضنجوي قال: أخبرنا محمد بن الحسين بن علي اليقطيني قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله العقيلي قال: حدّثنا صفوان بن صالح قال: حدّثنا الوليد قال: حدّثني محمد بن حمزة وعبد الله بن سلام أنّ موسى لمّا انتهى الى البحر قال: يا مَن قبل كلّ شيء، والمكوّن لكلّ شيء، والكائن بعد كلّ شيء، اجعل لنا مخرجًا، فأوحى الله سبحانه أن اضرب بعصاك البحر {فانفلق} فانشقّ {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ} فرقة أي قطعة من الماء {كالطود العظيم} كالجبل الضخم.قال ابن جريج وغيره: لما انتهى موسى الى البحر هاجت الريح، والبحر يرمي موجًا مثل الجبال فقال له يوشع: يا مكلّم الله أين أُمرت فقد غشينا فرعون، والبحر أمامنا؟ قال موسى: هاهنا فخاض يوشع الماء وحار البحر يتوارى حتى أقرّ دابته الماء، وقال الذي يكتم إيمانه: يا مكلّم الله أين أُمرت؟ قال: هاهنا فكبح فرسه بلجامه حتى طار الزبد من شدقته، ثم أقحمه البحر فارتسب الماء، وذهب القوم يصنعون مثل ذلك فلم يقدرو، فجعل موسى لا يدري كيف يصنع فأوحى الله سبحانه أن اضرب بعصاك البحر فضربه بعصاه فانفلق، فإذا الرجل واقف على فرسه لم يبتل لبده ولا سرجه.{وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخرين} يعني قوم فرعون يقول قرّبناهم الى الهلاك وقدّمناهم الى البحر.{وَأَنجَيْنَا موسى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخرين} فرعون وقومه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ}.قال مقاتل: لم يؤمن من أهل مصر غير آسية امرأة فرعون وخربيل المؤمن ومريم بنت موساء التي دلّت على عظام يوسف.{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم}.{واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ}.قال بعض العلماء: إنّما قالوا: فنظل لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل.{قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ} قراءة العامة بفتح الياء أي: هل يَسمعون دعاءكم، وقرأ قتادة يُسمعونكم بضم الياء {إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}.وفي هذه الآية بيان أنَّ الدين إنما يثبت بالحجة وبطلان التقليد فيه.{قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الأقدمون} الأولون {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي} وأنا منهم بريء، وإنما وحّد العدو لأن معنى الكلام: فإنّ كل معبود لكم عدوّ لي لو عبدتهم يوم القيامة، كما قال الله سبحانه وتعالى {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 82].وقال الفرّاء: هو من المقلوب أراد فإنّي عدو لهم لأنّ مَن عاديَته عاداك.ثم قال: {إِلاَّ رَبَّ العالمين} نصب بالاستثناء يعني فإنهم عدو لي وغير معبود لي إلاّ ربّ العالمين فإنّي أعبده، قاله الفرّاء، وقيل: هو بمعنى لكن، وقال الحسن بن الفضل: يعني الأمر عند رب العالمين.ثم وصفه فقال: {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} أخبر أن الهادي على الحقيقة هو الخالق لا هادي غيره.قال أهل اللسان: الذي خلقني في الدنيا على فطرته فهو يهديني في الآخرة إلى جنته.{والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} يعني يرزقني ويربيني.وقال أبو العباس بن عطاء: يعني يطعمني أيّ طعام شاء، ويسقيني أيّ شراب شاء.قال محمد بن كثير العبدي: صحبت سفيان الثوري بمكة دهرًا فكان يستف من السبت الى السبت كفًّا من رمل.وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبا الحسن محمد بن علي بن الشاه يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن علي بن حمدان يقول: سمعت الحجاج بن عبد الكريم يقول: خرجت من بلخ في طلب إبراهيم بن أدهم فرأيته بحمص في أتون يسجّرها فسلّمت عليه وسألته عن حاله، فردّ عليَّ السلام وسألني عن حالي وحال أقربائه، فكنت معه يومه ذلك فقال: لعلّ نفسك تنازعك الى شيء من طعام؟ فقلت: نعم فأخذ رمادًا وترابًا فخلطهما وأكلهما ثمَّ أقبل بوجهه عليَّ وانشأ يقول: فخرجت من عنده فمكثت أيامًا لم أدخل عليه فاشتدّ شوقي إليه، فدخلت عليه وكنت عنده فلم يتكلّم بشيء فقلت له: لِمَ لا تكلّم؟ فقال: قال أبو بكر الوراق: يطعمني بلا طعام ويسقيني بلا شراب، ومجازها: يشبعني ويرويني من غير علاقة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّى أبيت يطعمني ربّي ويسقيني». يدلّ عليه حديث السقاء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حيث سمع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام يقرأ: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} فرمى بقربته، فأتاه آت في منامه بقدح من شراب الجنّة فسقاه.قال أنس: فعاش بعد ذلك نيّفًا وعشرين سنة لم يأكل ولم يشرب على شهوته.وقال علي بن قادم: كان عبد الرَّحْمن بن أبي نعم لا يأكل في الشهر إلاّ مرَّة، فبلغ ذلك الحجاج فدعاه وأدخله بيتًا وأغلق عليه بابه ثم فتحه بعد خمسة عشر يومًا ولم يشكّ أنّه مات فوجده قائمًا يصلّي فقال: يا فاسق تُصلّي بغير وضوء فقال: إنّما يحتاج الى الوضوء مَن يأكل ويشرب، وأنا على الطهارة التي أدخلتني عليها هذا البيت.وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمد النيسابوري يقول: سمعت أبا نصر منصور بن عبد الله الاصبهاني يقول: سمعت أبا سعيد الخزاز بمكة يقول: كنت بطرسوس جائعًا، فاشتدَّ بي الجوع فجلست على شاطئ النهر ووضعت رجلي في الماء فنوديت: أضجرت من جوعك؟ هاك شبع الأبد.قال: فعاش بعده سنين لم يشته طعامًا ولا شرابًا، وكان مع ذاك إذا أراد الاكل والشرب أمكنه.وبلغني أنّ امرأة اسرت من حلب الى الروم في أيام سيف الدولة علي بن حمدان، فهربت منهم ومشت مائتي فرسخ لم تطعم شيئًا، فقدمت الى سيف الدولة فقال لها: كيف قويت على المشي وكيف عشت بلا طعام؟فقالت: كنتُ كلّما جعت أو أعييت أقرأ: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ثلاث مرّات فأشبع وأروى وأقوى.وسمعت أبا القاسم؟ يقول: سمعت أبا القاسم النصرآبادي يقول: سمعت أبا بكر الشبلي يقول: في الخبز لطيفة تشبعك لا الخبز، ولو شاء لأبقى فيك تلك اللطيفة حتى لا تحتاج الى الخبز.وقال ذو النون المصري: يطعمني طعام المحبّة ويسقيني شراب المحبّة. ثم أنشأ يقول: وسمعت ابن حبيب يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن عبيد الله الجرجاني يقول: سمعت الحسن بن علوية الدامغاني يقول: سمعت عمّي يقول: سمعت أبا يزيد البسطامي يقول: إنَّ لله شرابًا يقال له شراب المحبّة ادّخرهُ لأفاضل عباده، فإذا شربوا سكروا، فإذا سكروا طاشوا، فإذا طاشوا طاروا، فإذا طاروا وصلوا، فإذا وصلوا اتصلوا، فهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر.وقال الجنيد: يُحشر الناس كلّهم عراة إلاّ من لبس لباس التقوى، وغراثًا إلاّ من أكل طعام المعرفة، وعطاشى إلاّ من شرب شراب المحبّة.{وَإِذَا مَرِضْتُ} أضاف إبراهيم عليه السلام المرض الى نفسه وإن كان من الله سبحانه؛ لأنّ قومه كانوا يعدّونه عيبًا فاستعمل حسن الأدب، نظيرها قصة الخضر حيث قال.{فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79] وقال: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا} [الكهف: 82].{فَهُوَ يَشْفِينِ} يبرئني؛ يحكى أنّ أبا بكر الورّاق مرّ بطبيب يعطي الناس الأدوية فوقف عليه وقال: أيفعل دواؤك هذا أمرين؟قال: وما هما؟فقال: ردّ قضاء قاض وجرّ شفاء شاف؟فقال: لا، قال: فليس ذلك بشيء.وقال جعفر الصادق: إذا مرضت بالذنوب شفاني بالتوبة.سامر بن عبد الله: إذا أمرضتني مقاساة الخلق شفاني بذكره والأُنس به. {والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} أدخل هاهنا {ثُمَّ} للقطع والتراخي.قال أهل اللسان والاشارة: يميتني بالعدل ويحييني بالفضل، يميتني بالمعصية ويحييني بالطاعة، يميتني بالفراق ويحييني بالتلاقي، يميتني بالخذلان ويحييني بالتوفيق، يميتني غنىً ويحييني به، يميتني بالجهل ويحييني بالعلم.{والذي أَطْمَعُ} أرجو {أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين} قراءة العامّة بالتوحيد.وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حنش قال: حدّثنا أبا القاسم بن الفضل قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا أحمد بن يزيد قال: حدّثنا روح عن أبي اليقظان قال: حدّثنا الحكم السلمي قال: سمعت الحسن يقرأ: {والذي أطمع أن يغفر لي خطاياي يوم الدين}.قال: إنّها لم تكن خطيئة ولكن كانت خطايا.قال مجاهد ومقاتل: هي قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء: 63] وقوله لسارة هي أُختي زاد الحسن، وقوله للكواكب {هذا رَبِّي} [الأنعام: 76- 78].أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال: حدّثنا أحمد بن إبراهيم بن شاذان قال: حدّثنا عبيد الله بن ثابت الحريري قال: حدّثنا أبو سعيد الأشج قال: حدّثنا أبو خالد عن داود عن الشعبي عن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله إنّ عبد الله بن جدعان كان يقري الضيف ويصل الرحم ويفكّ العاني، فهل ينفعه ذلك؟ قال: «لا، لأنّه لم يقل يومًا قطّ: اغفر لي خطيئتي يوم الدين».وهذا الكلام من إبراهيم عليه السلام احتجاج على قومه وإخبار أنّه لا يصلح للإلهية إلاّ من فعل هذه الأفعال.
|